سيرة الصحابي : زيد بن حارثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين
أيها الأخوة الأكارم ، موضوعي عن صحابي هو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفَهُ الواصِفون بأنَّهُ كان قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فطَس ، وأما نبؤُهُ فَعَظيمٌ جداً جداً ، ماذا تدُلُّكم هذه المُفارقة ؛ قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فَطَس ، وهو حِبُّ رسول الله ، وأنَّه الصحابيُّ الوحيد - تَذَكَّروا - الذي ذكر الله اسمه في القرآن هو سيِّدُنا زَيْد ، وفي ذِكْره قِصَّة ، لماذا ذكر الله اسمه في القرآن الكريم ؟! أوَّلاً لا قيمة لِشَكْل الإنسان إطْلاقاً عند الله عز وجل ، أيَّةُ صِفَةٍ تكون مُتَلَبِّساً بها قصيرُ القامة أو طويلها ، أبيض اللون أو أسْمر اللون ، أيَّةُ صِحَّةٍ وأيَّةُ عاهَةٍ ، أيُّ جمـالٍ وأيَّةُ وسامَةٍ وأيـَّةُ دمامةٍ لا أثر لها عند الله تعالى قيمة الرجل في إيمانه وأفْعاله وعملــه ، إذاً كلُّ القِيَم المادِيَّــة الأخرى تحت الأقدام نَبِيُّ الرحمة والعدل والقِيَم والأخلاق، كلها اجتمعت فيه ، وهاهو عليه الصلاة والسلام يقول :" إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّم َصالح الأخلاق "( رواه أحمد )
إنه حِبُّ رسول الله .هذا الصحابيُّ الجليل كان أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قبل أنْ يُبْعَث النبي عليه الصلاة والسلام له قِصَّة ، وهي أنَّ زَيْداً كان صغيراً وعُمرهُ لا تزيد على ثماني سنوات ، أَتَوْا به إلى سوق عُكاظ وباعوه عَبْداً لماذاَ ؟! لأنَّ أمه سُعْدى بنت ثعْلبة أرادت أن تزور قومها بني معن ؛ وكانت تصحب معها ابنها زيد بن حارثة الكعبي ، فما كادت تحِلُّ في ديار قومها حتى أغارت عليهم خيلٌ لبني القيد ؛ فأخذوا المال واستاقوا الإبل وسبوا الذراري ، هكذا كان العرب في الجاهلية ، غارةٌ مفاجئة استاقوا الإبل وسلبوا الأموال و سبوا الذراري ؛ فكان هذا الطفل الصغير في الثامنة من عمره مع أمه في زيارة بيت جدِّه ؛ جاءت غارةٌ مفاجئة فأخذته وباعته في سوق عُكاظ عبداً واشترى هذا العبدَ حكيم بن حَزام بن خُوَيلِد بأربعمائة درهم ، واشترى معه طائفةً من الغلمان وعاد بهم إلى مكة فلما عرفت عمَّتُه خديجة بنت خُوَيلد بمقدمه زارته مسَلِّمةً عليه مرَحِّبةً به فقال : يا عمَّةُ لقد ابتعتُ من سوق عُكاظٍ طائفةً من الغلمان فاختاري أيَّا منهم تشائين فهو هديَّةٌ لكِ ، فتفرَّست السيدةُ خديجةُ وجوه الغلمان واختارت زيدَ بنَ الحارثة لِما بدا لها من نجابته ؛ ومضتْ به ؛ وما هو إلاَّ وقتٌ قليلٌ حتَّى تزوَّجتْ خديجةُ بنتُ خويلد من محمد بنِ عبدِ الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تُطرِفه ؛ أي تتحفه بتُحفة وهدية ، فأهدت له غلامها زيد بن حارثة ، فأعتقه النبي عليه الصلاة والسلام فورًا .هناك معانٍ كثيرةٌ جدًّا حول هذه القصة ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعَثْ بعدُ ، اسمه محمدُ بنُ عبدِ الله ، أحدُ الأشخاص في مكة المكرمة قُدِّم له زيدُ بن حارثةَ هديَّةً ، لكنَّ نفسَه أبَتِ أن تستعبد الناس فأعتقه فورًا ، ولكن أين يسكُنُ ، وأين يأكلُ ؟ بقِيَ عند النبي عليه صلاة والسلام ، لم يَبْقَ عنده عبداً ، إنما بقي عنده ضيفًا ، أما أُمُّه وأبوه فقد بَكَيَا عليه كثيرًا وبَحَثاَ عنه كثيرًا ، وفي موسمٍ من مواسم الحجِّ قصَدَ البيتَ الحرام نفرٌ من قوم زيدٍ ، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق ؛ إذْ هم بِزَيدٍ وجهاً لوجهٍ ، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم، و لما قضَوْا مناسكهم وعادوا إلى دِيارِهم أخبروا حارثةَ - من حارثةُ ؟ أبوه – بِما رأوا وبماسمعوا ، وقال زيدٌ لهؤلاء : أخبروا أبي أني مع أكرمِ والدٍ ، حارثة لما علِمَ أنَّ ابنه فَلِذَةُ كَبِدِه بِمَكَّة عند محمدٍ بن عبد الله ، شَدَّ راحِلَتَهُ وهيَّأ المبلغ الكبير لافتدائه ؛ عَبْدٌ بيعَ بِسُوق عُكاظ لا بد من دَفْع الثَمَن ، تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مكَّة المُكَرَّمة ومعه أخوه فلما دخلا على محمد بن عبد الله حارِثَة وأخوه – قالاَ له : يا ابن عبد المُطَّلب أنتم جيران الله تَفُكُّون العاني – الأسير – وتُطْعِمون الجائِع وتُغيثون الملْهوف وقد جِئْنا في ابننا الذي عِندك ، وحَمَلْنا إليك من المال ما يفي به ، فامْنُنْ علينا وفاده لنا بما تشاء واطْلُب المبلغ الذي تريد فقال عليه الصلاة والسلام وهو سيّد الخلق : ومن ابْنُكُما الذي تَعْنِيا ، فقالاَ: غُلامك زَيْدُ بن حارِثَة فقال : وهل لكما فيما هو خيرٌ من الفِداء ؟ أنا أعْرض لكما لما هو خيرٌ من الفِداء فقالا : وما هو ؟ قال عليه الصلاة والسلام : أدْعوه لكم فَخَيِّروهُ بيني وبينكم فإنْ اخْتاركم فَهُو لكم بِغَيْر مال وإن اخْتارني فما أنا بالذي يرغب عمن اخْتاره ! دَقِّقوا في دِقَّة النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال العمّ والأب : والله قد أنْصَفْت وبالغتَ في الإنصاف مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم لم الفِداء وهو ابنكم ؟! فَدَعا النبي عليه الصلاة والسلام زيْداً فقال : من هذان ؟! قال : هذا أبي حارثة ابن شُرَحْبيل وهذا عمِّي كَعْب فقال : يا زيد قد خَيَّرْتك إنْ شِئتَ مَضَيْتَ معهما وإن شِئتَ أقَمْتَ معي ، فقال زيدٌ من غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء : بل أُقيمُ معك ، وما أنا بالذي أخْتار عليك أحداً أنت الأب والعمّ فقال أبوه : وَيْحَكَ يا زيد أَتخْتارُ العُبودِيَّة على أبيك وأمِّك ؟! قال : إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئاً أنْساني كُلَّ إنْسان ، ما أنا بالذي يُفارقُه أبداً – هذه هي المُعاملة ، وهل تسْتطيع أنْ تُعامل إنْساناً مُعامَلَةً يؤْثِرُك على أمِّهِ وأبيه ؟! إذا كنت مؤمناً فهكذا تُعامل الناس، المؤمن أيها الأخوة ، كيْفما تَحَرَّك مع الذين يعيشون معه من شِدّة إنصافه ورحمته وحنانه وعَطْفِه وكرمِهِ ووفائِه وتواضُعِه يؤثرونه على كُلِّ شيء – قال : إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئاً أنْساني كُلَّ إنْسان ، ما أنا بالذي يُفارقُه أبداً ، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من زَيْدٍ ما رأى أخذ بِيَده وأخْرجه إلى البيت الحرام ووقف به بِالحِجْر على ملأ من قُرَيش وقال : يا معْشَر قُرَيْش اِشْهدوا أنَّ هذا ابني يَرِثُني وأرِثُهُ ، عندئِذٍ طابتْ نفسُ أبيه وعَمِّه وخَلَّفاهُ عند محمّدٍ بن عبد الله وعادا إلى قوْمِهما مُطْمئِنّي النفس و مُرْتاحي البال ، ومنذ ذلك الوقت أصبح زيدُ بن حارِثة يُدْعى بِزَيْد بن محمّد والغريب في القصَّة هو أنه مهما كان الإنسان يعيش في رَغَدٍ من الحياة إلا أنه لا يُؤثر أحداً على والدَيْه! لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان بِمَثابة الوالد والأم وهكذا الإسلام .فلما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام وأبْطَلَ الإسلامُ التَبَني حيث نزل قوله عز وجل :(( ادعوهم لإبائهم هو اقسط عند الله فإن لم تعلموا أبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ))( الأحزاب : الآية 5 )
عندَئِذٍ عاد النبي عليه الصلاة والسلام وناداهُ زيد بن حارثة اِمْتِثالاً لأمر الله فإكْراماً له عندما ردّه إلى أبيه ذكر الله اسمه في القرآن الكريم تطيباً لخاطره، وهو الوحيد الذي ذكِر في القرآن الكريم ، إذْ ليس في القرآن الكريم اسم لصحابي إلا سيّدنا زيد ، والآية قوله تعالى :(( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ))( الأحزاب : الآية 37 )
هل في القرآن اسمُ امرأة ؟ نعم مريم ، وهي الوحيدة التي ذُكِرَت في القرآن إذْ إنّ بعض العلماء قال إنَّ ذِكْر اسم المرأة مكْروه ، وإنما ذُكِرت مريم عليها السلام في القرآن لأنَّ سيّدنا عيسى عليه السلام قالوا عنه إنَّهُ إله ، وهو ابن الله ، فَرَبُّنا عز وجل قال : عيسى بن مريم وهو الاسم الوحيد ، لكن زيداً اخْتار النبي وآثره وأحَبَّهُ دون أنْ يعْلم أنَّهُ ستكون زيداً ، فماذا نسْتَنبط من هذه الحقيقة ؟ نسْتَنْبط أنَّ الأنبياء اصْطفاهُم الله عز وجل من صَفْوَة الخلق ، فالنُّبَوَة هِبَة أساسُها اصْطِفاء ، والاصْطِفاء أساسه التَفَوُّق ، فهو عليه الصلاة والسلام تَفَوَّقَ بِكماله وأخْلاقه وتواضُعِه وإنْسانِيَتِهِ وكَرَمِه وحُبِّه للخلق ، فاصْطَفاهُ الله عز وجل ، هي نُبَوَّةٌ وهِبَةُ ولكن أساسها اصْطِفاءٌ من بين صَفْوَة الخلق .زيْدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلَّم مكانة كبيرة ، فبِالمَرْتبة الاجْتِماعِيَّة والتصْنيف الطَبَقي سيّدنا زيد عَبْدٌ لكنه كان خليفة رسول الله على المدينة وكان أمين سِرِّه وقائِدَ غزواته ؛ هذا هو الإسلام الذي نطْمَحُ إليه ؛ عَبْدٌ قصير القامة شديد السُّمْرة أفْطَسُ الأنْف كانَ حِبَّ النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان أمين سِرِّه وقائِده على سراياهُ وغزواته وخليفته على مدينته أثْناء غِيابه . دائِماً أيها الأخوة ، لا يوجد حُبٌّ من طرفٍ واحدٍ ، عظمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه أحبَّ أصْحابه كما أحبُّوه ، أو أنهم أحَبُّوه كما أنه أحَبَّهُم، أَحَبوهُ لأنه أحَبَّهُم ، مُجْتمع المؤمنين مُتماسِك .عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ *( رواه أحمد )
إذا لم تُحبّ إخوانك ولم ترْحَمْهُم ، ولم تعْطِف عليهم ، ولم تنصِفْهم ، ولم تَوُدَّهم ،ولم تزرهم وتتفَقَّدْهم بِمُناسبات مُعَيَّنة ، وتبْذل لهم شيئاً من مالك حتى يصير الأخ لِأخيه كالبُنْيان المَرْصوص ؛ إنْ لم نكُن كذلك فَلَسْنا من المؤمنين !الشيءُ الذي لفتَ نظري في سيرة هذا الصحابي ، كما أنه أحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وآثره على أمِّه وأبيه فقد أحَبَّهُ النبي عليه الصلاة والسلام وخلطه بِأهله وبنيه فكان يشْتاقُ إليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم إنْسانٌ عظيمٌ جداً ووقورٌ جداً وهو سيِّدُ الأنبياء ومع ذلك يشْتاقُ لزيد إذا غاب عنه وهذا هو مُجْتمع المؤمنين ، الذي لفتَ نظري أنَّ النبي يشْتاقُ إليه ! هذا المُتَّصِل بالله عز و جل والذي يأتيه الوَحْي وأسْعد الخلق يشْتاقُ لِسَيِّدِنا زيْد قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فَطس ، وهو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقد كان يشْتاقُ إليه إذا غاب عنه ويفْرَحُ بِقُدومه إذا عاد إليه ويلْقاهُ لِقاءً لا يَحظى بِمِثْله أحد ، هذا هو الوفاء ، وكأنَّ لِسانَ حالِ النبي عليه الصلاة والسلام : أنت يا زيد آثرْتني على والِدَيْك وبقيتَ عندي أفلا أُحِبُّك أشَدَّ من حُبِّك لي ؟ السَيِّدة عائِشَة رضي الله عنها تَرْوي مشْهداً تقول : قَدِمَ زيد بن حارِثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم في بيتي فقَرَعَ الباب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَخَفِّفاً من ثِيابه ، فلما علِمَ أنَّ زيْداً قد جاء فَمِن شِدَّة شَوْق النبي لِزَيْدٍ واهْتِمامه به نَسِيَ أنْ يرْتَدي ثِيابه الخارِجِيَّة فلما قرع الباب قام إليه النبي عليه الصلاة والسلام بِثِيابه الخفيفة ومضى نحو الباب يَجُرُّ ثَوْبَهُ فاعْتَنَقَهُ وقبَّلَهُ ووالله ما رأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يسْتقبل أحداً قبله ولا بعده بِهذه الثِّياب ، وهو مَشْهَدٌ من مشاهد حُبِّ النبي لِهذا الصحابيِّ الجليل ، شاعَ هذا الأمر بين الصحابة حتى إنَّ الصحابة سَمَّوْهُ بِزَيْد الحِبّ أيْ محْبوبهُ وأطْلقوا عليه لقب حِبَّ رسول الله ولَقَّبوا ابنه أسامة من بعده بِحِبِّ رسول الله وابن حِبِّه ، وقِصَّة اسْتِشْهادِهِ معْروفة عندكم ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عَيَّنَهُ القائِد الأول في جَيْش مؤتة وتَعْلمون أنَّ مؤتة موْقِعَةٌ خاضَها المُسلمونوالنبي عليه الصلاة والسلام ليس معهم ، كان أصْحابُ النبي ثلاثة آلاف ، ما قَوْلُكم بأنهم واجَهوا أكثر من مئتي ألف ! من الروم مائة ، ومائة ممن ظاهروهم ، ووقف أصْحاب النبي أمام هذا الجيش الكبير بِعُدَّتِه وعتاده والقِصَّة المعروفة أنَّ سيّدنا جعْفر تسلم القيادة بعد استشهاد زيد فلما قطعت يده اليُمنى حَمَل الراية بِيَدِهِ اليُسرى فلما قُطِعَت اليُسْرى حَمَلها بِعَضُدَيْه وقاتل حتى قُتِل وخَرَّ صريعاً من علا فرَسِه غارِقاً في بحْر دِمائِهِ واسْتُشْهِد ، بعدها تقدَّم سيّدنا ابن رواحة - كما تَرْوي بعض السِّيَر لا كلها- رأى صاحِبَيْه قد اسْتُشْهِدا في وقْتٍ قصيرٍ جداً ورأى مصيرهُ المحْتوم بعضُهم قال تَرَدَّد مِقدار ثلاثين ثانية ؛ مِقْدار بيْتَيْن من الشِّعر : يا نفْسُ إلا تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صليتِ
إنْ تفْعلي فِعْلهما رضيتِ وإنْ تَوَلَّيْتِ فقـد شَـقيتِ
وقاتل حتى قُتِل ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه النبأ قال : أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتِل وإني لأرى مقامه في الجنَّة ؛ النبي رأى سيّدنا جعفراً يطير بجناحين في الجنَّة ، وسماهُ أصْحابُهُ جعفر الطيار وقبله سيّدنا زيد بن حارثة قاتل حتى قُتِل واسْتُشهد فقد كان قائِداً وخليفةً عند سفر النبي كما كان أمين سِرِّه ، وكان حِبُّهُ ، وكان في المرتبة الاجتماعِيَّة في التصْنيف الطبقي عبْداً ، أرأيْتُم إلى عظمة الإسلام ؟! وإلى هذه العدالة في الإسلام ؟! اللهمّ صلِّ عليه ومن شِدَّة وفائِه ذهب بِنَفْسِه لِيُبَلِّغَ أهل سيِّدنا جَعْفر نبأ اسْتِشْهاده لأنَّ مكانته الكبيرة عند الله لعلَّها تُخَفِّفُ وطْأةَ خبرِ اسْتِشْهاده وذهب بِنَفْسِهِ أيضاً إلى بيتِ سيّدنا زيدٍ بن حارِثة لِيُبَلِّغ نبأ اسْتِشهاده ، ولما َبَلَغَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أنباءُ مُؤتة ومصْرَعُ قادته الثلاثة حَزِنَ عليهم حُزْناً لم يحْزن مثله قطُّ ، ومضى إلى أهْليهم يُعَزيهم فيهم فلما بلغ بيتَ زيْدٍ لاذَتْ به ابنته أيْ أقْبلت على النبي عليه الصلاة والسلام وتعلَّقَت به ، وهي مُجْهِشَةٌ بالبُكاء ، شيءٌ غريب فقد كان النبي يبْكي ولكن بدون صَوْتٍ إلا مرَّةً واحدة فقد بكى صلى الله عليه وسلَّم حتى انتَحَب ومعنى انْتَحَب اِرْتفع صوْته بالبُكاء ، فقال له سعدُ بن عُبادة : ما هذا يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هذا بُكاءُ الحبيب على حبيبه ، هذا هو الحُبّ الذي بين النبي وبين أصْحابه ، وينْبغي أنْ يكون هذا الحُبُّ بين المؤمنين ، وهذا هو الإسلام ، هؤلاء الصحابة هم الذين حملوا الإسلام ورَوَوا هذه الأراضي بِدِمائِهم ، أما نحن فالإسلام هوالذي حملنا ، فإذا الإنسان منا حَفِظ القرآن أُكْرم بالجوائِز من عُمْرةٍ ودراهم إلى احْتِفالات وعزائِم ، وهؤلاء الدعاة الآن يُكْرمون كثيراً أما الذين فتحوا هذه البلاد ورووا الأرض بِدِمائِهم، والذين دفعوا الثمن باهِظاً ، وأكلوا طعاماً خَشِناً وخاضوا حُروباً قاسِيَة وما ذاقوا طعْمَ النوم ، إلا قليلاً فهؤلاء هم الذين حملوا الإسلام حقاً فَشَتَّان بين أن تحْمِل الإسلام وبين أنْ يحملك الإسلام ! وأرجو الله سبحانه وتعالى ضارعاً أنْ يُلْهِمنا الخير والحق ، وتطبيق هذه السيرة السمحة في مجتمعنا وفيما بيننا لأننا إذا طبَّقْناها كُنا مسْلمين حقاً
والحمد لله رب العالمين