فإن للتوكل على الله تعالى منزلة عظيمة في الإسلام يلحظها من تأمل النصوص الواردة فيه وكل عبد مضطر إليه لا يستغني عنه طرفة عين كما أنه من أعظم العبادات من جهة توثق صلته بتوحيد الرب سبحانه يقول تعالى:
وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت [الفرقان:58]. في هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه
أن يتوكل عليه سبحانه وتعالى وألا يركن إلا إليه لأنه الحي الذي لا يموت وهو القوي القادر سبحانه وتعالى ومن يتوكل عليه جل وعلا فهو حسبه أي كافيه ومؤيده وناصره ومن توكل على غير الله فإنما يتوكل على من يموت ويفنى والضعف والعجز يعتوره من كل جهة ولأجل ذلك فالمتوكّل عليه يضيع ويزيغ وكل من اعتمد على غير الله فقد ضل سعيه.
فدلّ ذلك على فضل التوكل على الله جل وعلا وتعليق القلب به سبحانه.
والتوكل معناه: صدق اعتماد القلب على الله عزوجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها وأن يكل العبد أموره كلها إلى الله جل وعلا وأن يحقق إيمانه بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع: سواه جل وعلا.
وقد حضّ الله عباده المؤمنين على التوكل في مواضع عديدة من الكتاب العزيز وبيّن سبحانه ثمراته وفضائله:
ومن ذلك قوله سبحانه:
وعلى اللّه فتوكّلوا إن كنتم مّؤمنين [المائدة:23] وقوله عزوجل:
وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون [التوبة:51] وقوله تعالى:
ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه [الطلاق:3] وقوله جل وعلا:
فإذا عزمت فتوكّل على اللّه إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين [آل عمران:159] وقال سبحانه واصفا عباده المؤمنين في معرض الثناء والمدح:
إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربّهم يتوكّلون [الأنفال:2].
وفي السنة المطهرة تكاثرت النصوص الموضّحة لأهمية التوكل والحض عليه ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه
:
{ لو أنكم توكّلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا }.
قال الحافظ ابن رجب رحمه اللّه: ( هذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق ) قال اللّه عزوجل:
ومن يتّق اللّه يجعل لّه مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه [الطلاق:32].
ودلّ حديث عمر المذكور على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدّر لهم فلو حققوا التوكل على اللّه بقلوبهم لساق اللّه إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدوّ والرّواح وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير. وهذا ما يشير إليه قوله صلى اللّه عليه وسلم:
{ لرزقكم كما يرزق الطير } ومعناه أنها تذهب أول النهار خماصا أي ضامرة البطون من الجوع وتتجه إلى غير وجهة محددة تطير وتبحث وتسعى ثم ترجع آخر النهار بطانا أي ممتلئة البطون.
وصح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه عنه جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه أنه قال:
{ إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب خذوا ما حلّ ودعوا ما حرم } [رواه ابن ماجة والحاكم وابن حبان].
وقال عمر رضي اللّه عنه: ( بين العبد وبين رزقه حجاب فإن قنع ورضيت نفسه أتاه رزقه وإن اقتحم وهتك الحجاب لم يزد فوق رزقه ).
وقال بعض السلف: ( توكّل تسق إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف ).
وها هنا تنبيه إلى أن التوكل الصحيح يستلزم من صاحبه أن يعمل الأسباب كما قال تعالى:
واتّقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون [المائدة:11]. فجعل التوكل مع التقوى وهي هنا شاملة للقيام بالأسباب المأمور بها فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.
وهذا المعنى يدل عليه أيضا ما رواه الترمذي وغيره عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه ! أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال:
{ اعقلها وتوكل }.
وقد أخطأ في هذا الباب أقوام فعوّلوا عجزهم على التوكل وتذرّعوا به فضيّعوا من الحقوق والواجبات لأنفسهم ولعيالهم وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:
{ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت} [رواه أبو داود].
ولمثل أولئك قال عليه الصلاة والسلام:
{ المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقولن: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر اللّه وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان }.
ومما ينبّه إليه هنا أن ضعف التوكل لدى الإنسان إنما ينتج عن ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وذلك لأن من وكل أموره إلى اللّه ورضي بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل عليه وأما من وكل أموره لغير اللّه وتعلق قلبه به فهو مخذول غافل عن ربه جل وعلا.
روى ابن مسعود رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:
{ من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسدّ فاقته ومن أنزلها باللّه أوشك اللّه له بالغنى } الحديث [رواه أبو داود وغيره].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه: ( وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك قال تعالى:
ومن يشرك باللّه فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق [الحج:31] ).
قال الشيخ سليمان بن عبداللّه بن محمد بن عبدالوهاب رحمهم اللّه: ( التوكل قسمان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا اللّه كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر أو حفظ رزق أو شفاعة فهذا شرك أكبر.
والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره اللّه تعالى عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهو نوع من شرك أصغر.
والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكّل فيه بل يتوكل على اللّه في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبّب الذي أوجد السبب والمسبّب ).
ومما يزيد إيضاح تحقيق التوكل والعمل بالأسباب مع تعليق القلب باللّه وحده: ما أخبر به أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم للمدينة إذ قال: ( نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا فقلت: يا رسول اللّه ! لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال:
{ ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللّه ثالثهما } [متفق عليه]. وتصديقه قوله تعالى:
إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا [التوبة:40].
ومن توكّل على اللّه فإنه ينال من فضائله وثمراته بحسب تحقيقه له ما لا يخطر له على بال ولا يحيط به مقال فهو أشرح الناس صدرا وأطيبهم عيشا قال تعالى:
ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه [الطلاق:3].
ولأهمية هذه المسألة فقد عدّها العلماء في أبواب التوحيد والعقائد إذ أنها من أجلّ العبادات وأعظمها ولذا عقد لها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بابا في كتابه ( كتاب التوحيد) ودلّل عليها وبيّن أنها من الفرائض ومن شروط الإيمان. فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بها وتعاهد قلبه على ذلك.